فصل: تفسير الآيات (9- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (9- 12):

قوله تعالى: {وجاء فِرْعوْنُ ومنْ قبْلهُ والْمُؤْتفِكاتُ بِالْخاطِئةِ (9) فعصوْا رسُول ربِّهِمْ فأخذهُمْ أخْذة رابِية (10) إِنّا لمّا طغى الْماءُ حملْناكُمْ فِي الْجارِيةِ (11) لِنجْعلها لكُمْ تذْكِرة وتعِيها أُذُنٌ واعِيةٌ (12)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر تعالى عمن أهلك بالريح ومن أهلك بما سببه الريح تسبيبا قريبا بغير واسطة، وكان ذلك كله- لخروجه عن العادة- رادا على أهل الطبائع، أخبر بمن أهلك مما سببته الريح من الماء بواسطة السحاب، وكانت سبب تطابقه عليهم مع أن كفرهم بالتعطيل الذي هو أنحس أنواع الكفر للقول بالطبيعة التي تتضمن الإنكار للبعث، وكان إغراقهم بما يكذب معتقدهم لخروجه عن العادة، فقال منبها على قوة كفرهم بالمجيء: {وجاء} أي أتى إتيانا عاليا شديدا {فرعون} أي الذي ملكناه على طائفة من الأرض فعتى وتجبر وادعى الإلهية ناسيا هيبتنا وقدرتنا بنقمتنا وأنكر الصانع وقال بالطبائع {ومن قبله} أي في جهته وفي حيزه وما يليه وفي السير بسيرته من العلو في الأرض بغير الحق والعتو في الكفر، وهو ظرف مكان، هكذا على قراءة البصريين والكسائي بكسر الكاف وفتح الموحدة، فعم ذلك كل من كان كافرا عاتيا من قبله ومن بعده، وهو معنى قراءة الباقين بفتح القاف وإسكان الباء الموحدة على أنه ظرف يقابل (بعد) بزيادة.
ولما كان قوم لوط عليه السلام قد جمعوا أنواعا من الفسوق لم يشاركهم فيها أحد، فاشتمل عذابهم على ما لم يكن مثله عذاب، فكان كل من فعلهم الذي لم يسبقهم به أحد من العالمين وعذابهم الذي ما كان مثله قبل ولا بعد، رادا على أهل الطبائع، نص عليهم من بين من دخل فيمن قبله على القراءتين فقال: {والمؤتفكات} أي أهل المدائن المنقلبات بأهلها حتى صار عاليها سافلا لما حصل لأهلها من الانقلاب حتى صاروا إياه واتبعت حجارة الكبريت وخسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله وهي قرى قوم لوط عليه السلام {بالخاطئة} أي الخطأ أو الأفعال ذات الخطأ التي تتخطى منها إلى نفس الفعل القبيح من اللواط والصفع والضراط مع الشرك وغير ذلك من أنواع الفسق والعناد والطغيان.
ولما كان الرسل كلهم جميعا كالفرد الواحد لاتفاق مقاصدهم في الدعاء إلى الله والحمل على طاعته، قال مستأنفا مسببا عن مجيئهم بذلك موحدا في اللفظ ما هو صالح للكثير بإرادة الجنس: {فعصوا} أي خالفوا ونابذوا {رسول ربهم} أي خالفت كل أمة من أرسله المحسن إليها بإبداعها من العدم وإيداعها القوى وترزيقها وبعث رسولها لإرشادهها اغترارا بإحسانه ولم يجوزوا أن المحسن يقدر على الضر كما قدر على النفع، لأنه الضار كما أنه النافع فللتنبيه على مثل ذلك لا يجوز نقل أحد الاسمين عن الآخر، وسبب عن العصيان قوله: {فأخذهم} أي ربهم أخذ قهر وغضب {أخذة} لم يبق من أمة منهم أحدا ممن كذب الرسول فلم يكن كمن ينصر على عدو من الآدميين لابد من أن يفوته كثير منهم وإن اجتهد في الطلب، وما ذاك إلا لتمام علمه سبحانه وتعالى بالجزئيات والكليات، وشمول قدرته، وتلك الأخذة- مع كونها بهذه العظمة من أنها أخذتهم كنفس واحدة- جعلها سبحانه {رابية} أي عالية عليهم علية القدر في قوة البطش وشدة الفتك زائدة على الحد نامية بقدر زيادة أعمالهم في القبح، والربا: النمو، وأصله الزيادة، فأغرق فرعون وجنوده، وأغرق كل من كذب نوحا عليه السلام، وهم كل أهل الأرض غير من ركب معه في السفينة، وحمل مدائن لوط عليه السلام بعد أن نتقها من الأرض على متن الريح بواسطة من أمره بذلك من الملائكة ثم قلبها وأتبعها الحجارة وخسف بها وغمرها بالماء المنتن الذي ليس في الأرض ما يشبهه.
ولما كان ربما وقع في وهم التعجب من وجود فرعون ومن بعده من الإخبار بأخذ من قبله على قراءة الجماعة مع أن (من) من صيغ العموم، أشار إلى أنه أهلك جميع المخالفين وأنجى جميع الموافقين، قال جوابا لذلك السؤال مؤكدا لأجل من يتعنت ولأن ذلك كان مما يتعجب منه ويتلذذ بذكره: {إنا} أي على قدرتنا وعظمتنا وإحاطتنا {لما طغا الماء} أي فزاد عن الحد حتى علا على أعلى جبل في الأرض بقدر ما يغرق من كان عليه حين أغرقنا قوم نوح عليه السلام به فلم يطيقوا ضبطه ولا قاووه بوجه من الوجوه، ولا وفقوا لركوب السفينة، فكان خروجه عن العادة رادا على أهل الطبائع.
ولما كان الإيجاد نعمة فكان إنجاء آبائهم من الغرق حتى كان ذلك سببا لوجودهم نقمة عليهم قال تعالى: {حملناكم} أي في ظهور آبائكم بعظمتنا ومشيئتنا وقدرتنا {في الجارية} أي السفينة التي جعلناها بحكمتنا عريقة في الجريان حتى كأنه لا جارية غيرها على وجه الماء الذي جعلنا من شأنه الإغراق، وهو تعبير بالصفة عن الموصوف، ونوح عليه السلام أول من صنع السفينة، وإنما صنعها بوحي الله تعالى وبحفظه له من أن يزل في صنعتها، قال: اجعلها كهيئة صدر الطائر ليكون ما يجري في الماء مقاربا لما يجري في الهواء، وأغرقنا سوى من في السفينة من جميع أهل الأرض من أدمي وغيره.
ولما بدأ سبحانه وتعالى بثمود الذين هم أقرب المهلكين إلى مكة المشرفة لأن التخويف بالأقرب أقعد، وختم بقوم نوح عليه السلام لأنهم كانوا جميع أهل الأرض ولم يخف أمرهم على أحد ممن بعدهم، علل اختيار إنجائهم بالسفينة دون غيرها فقال: {لنجعلها} أي هذه الفعلات العظيمة من إنجاء المؤمنين بحيث لا يهلك منهم بذلك العذاب أحد وإهلاك الكافرين بحيث لا يشذ منهم أحد، وكذا السفينة التي حملنا فيها نوحا عليه السلام ومن معه بإبقائها آية من آياته وأعجوبة من بدائع بيناته وغريبة في الدهر من أعجوباته {لكم} أي أيها الأناسي {تذكرة} أي سببا عظيما لذكر أول إنشائه والموعظة به لتستدلوا بذلك على كمال قدرته تعلى وتمام علمه وعظمة رحمته وقهره، فيقودكم ذلك إليه وتقبلوا بقلوبكم عليه {وتعيها} أي ولتحفظ قصة السفينة وغيرها مما تقدم، حفظا ثابتا مستقرا كأنه محوى في وعاء.
ولما كان المنتفع بما يسمع الحافظ له قليلا جدا، دل على ذلك يتوحيد الأذن فقال موحدا منكرا مع الدلالة على تعظيمها: {أذن} أي عظيمة النفع {واعية} أي من شأنها أن تحفظ ما ينبغي حفظه من الأقوال والأفعال الإلهية والأسرار الربانية لنفع عباد الله كما كان نوح عليه السلام ومن معه وهم قليل سببا لإدامة النسل والبركة فيه حتى امتلأت منه الأرض.
والوعي: الحفظ في النفس، والإيعاء: الحفظ في الوعاء، وفي ذلك توبيخ للناس بقلة الواعي منهم، ودلالة على أن الأذن الواحدة إذا غفلت عن الله تعالى فهي السواد الأعظم، وما سواها لا يبالي بهم الله بالة- قاله الأصبهاني والزمخشري وغيرهما. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

القصة الثانية قصة فرعون:
{وجاء فِرْعوْنُ ومنْ قبْلهُ والْمُؤْتفِكاتُ بِالْخاطِئةِ (9)}
أي ومن كان قبله من الأمم التي كفرت كما كفر هو، و(من) لفظ عام ومعناه خاص في الكفار دون المؤمنين، قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي، {ومِن قبْلِهِ} بكسر القاف وفتح الباء، قال سيبويه: قبل لما ولي الشيء تقول: ذهب قبل السوق، ولى قبلك حق، أي فيما يليك، واتسع فيه حتى صار بمنزلة لي عليك، فمعنى {مِن قبْلِهِ} أي من عنده من أتباعه وجنوده والذي يؤكد هذه القراءة ما روي أن ابن مسعود وأبيا وأبا موسى قرؤا: {ومِنْ تلقاءه} روى عن أبي وحده أنه قرأ: {ومن مّعهُ} أما قوله: {والمؤتفكات} فقد تقدم تفسيرها، وهم الذين أهلكوا من قوم لوط، على معنى والجماعات المؤتفكات، وقوله: {بِالْخاطِئةِ} فيه وجهان الأول: أن الخاطئة مصدر كالخطأ والثاني: أن يكون المراد بالفعلة أو الأفعال ذات الخطأ العظيم.
{فعصوْا رسُول ربِّهِمْ فأخذهُمْ أخْذة رابِية (10)}
الضمير إن كان عائدا إلى {فِرْعوْنُ ومن قبْلهُ} [الحاقة: 9]، فرسول ربهم هو موسى عليه السلام، وإن كان عائدا إلى أهل المؤتفكات فرسول ربهم هو لوط، قال الواحدي: والوجه أن يقال: المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله، {فعصوْاْ} فيكون كقوله: {إِنّا رسُولُ ربّ العالمين} [الشعراء: 16] وقوله: {فأخذهُمْ أخْذة رّابِية} يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد ثم فيه وجهان الأول: أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار الثاني: أن عقوبة آل فرعون في الدنيا كانت متصلة بعذاب الآخرة، لقوله: {أُغْرِقُواْ فأُدْخِلُواْ نارا} [نوح: 25] وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو.
القصة الثالثة قصة نوح عليه السلام:
{إِنّا لمّا طغى الْماءُ حملْناكُمْ فِي الْجارِيةِ (11)}
طغى الماء على خزانه فلم يدروا كم خرج وليس ينزل من السماء قطرة قبل تلك الواقعة ولا بعدها إلا بكيل معلوم، وسائر المفسرين قالوا: {طغى الماء} أي تجاوز حده حتى علا كل شيء وارتفع فوقه، و{حملناكم} أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم، ولا شك أن الذين خوطبوا بهذا هم أولاد الذين كانوا في السفينة، وقوله: {فِى الجارية} يعني في السفينة التي تجري في الماء، وهي سفينة نوح عليه السلام، والجارية من أسماء السفينة، ومنه قوله: {ولهُ الجوار} [الرحمن: 24].
قوله تعالى: {لِنجْعلها لكُمْ تذْكِرة} الضمير في قوله: {لِنجْعلها} إلى ماذا يرجع؟ فيه وجهان: الأول: قال الزجاج إنه عائد إلى الواقعة التي هي معلومة، وإن كانت هاهنا غير مذكورة، والتقدير لنجعل نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة عظة وعبرة الثاني: قال الفراء: لنجعل السفينة، وهذا ضعيف والأول هو الصواب، ويدل على صحته قوله: {وتعِيها أُذُنٌ واعية} فالضمير في قوله: {وتعِيها} عائد إلى ما عاد إليه الضمير الأول، لكن الضمير في قوله: {وتعِيها} لا يمكن عوده إلى السفينة فكذا الضمير الأول.
قوله تعالى: {وتعِيها أُذُنٌ واعية} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
يقال: لكل شيء حفظته في نفسك وعيته ووعيت العلم، ووعيت ما قلت ويقال: لكل ما حفظته في غير نفسك: أوعيته يقال: أوعيت المتاع في الوعاء، ومنه قول الشاعر:
والشر أخبث ما أوعيت من زاد

واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قوم من الغرق بالسفينة وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم ونفاذ مشيئته، ونهاية حكمته ورحمته وشدة قهره وسطوته، وعن النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية: «سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، قال علي: فما نسيت شيئا بعد ذلك، وما كان لي أن أنسى» فإن قيل: لم قال: {أُذُنٌ واعية} على التوحيد والتنكير؟ قلنا: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يلتفت إليهم، وإن امتلأ العالم منهم.
المسألة الثانية:
قراءة العامة: {وتعِيها} بكسر العين، وروى عن ابن كثير {وتعِيها} ساكنة العين كأنه جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة فخذ، فأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من فخذ وكبد وكتف، وإنما فعل ذلك لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل، فأشبه ما هو من نفس الكلمة، وصار كقول من قال: وهو وهي ومثل ذلك قوله: {ويتّقْهِ} [النور: 52] في قراءة من سكن القاف.
واعلم أنه تعالى لما حكى هذه القصص الثلاث ونبه بها عن ثبوت القدرة والحكمة للصانع فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة، وثبت بثبوت الحكمة إمكان وقوع القيامة. اهـ.